عندما يفتح باب الحارة بقلمي!!

دقت عقارب الساعة الثامنة مساءاً.. لملمت الضجة أمتعتها ورحلت من الشوارع المزدحمة، وخلت الممرات من الأولاد العابثين، واستوطن الصمت في الأزقة والأحياء، وانطلقت أضواء خافتة من البيوت. تجولتُ في المدينة فلم أعد أرَى ذلك الضجيج الذي كان يعّج بالمارة ولم ألمح صخب الليالي الرمضانية ولم أشم رائحتها المحلاة بالسكر والحلويات والمأكولات، أين ذهب الناس؟ سالت نفسي متعجبة؟ ترى ما الذي سرقهم من لهوهم ومن سهرهم وسمرهم؟


فعرفت أن وراء هذا الانجذاب ولادة جديدة.يترقبون مخاض الأحداث بعدما حملت الدراما السورية في أحشائها جنيناً اخراً، وبعد مدة حملٍ ومخاض كبيرين، أنجبت انتاجاً مميزاً راقياً قدمته للمشاهد العربي. فيه امتزاج واضح للصوت الصورة، للنبض والإيقاع، للحس والفكر.
مسلسل له إيقاع كبير في قلوب الناس، ويستحوذ على مشاعرهم، ويدخلهم في حالة من النشوة لمدة ساعة من الزمن. انه مسلسل "باب الحارة". هذا العمل الدرامي سوري الإنتاج، عربي التسويق أصبح ذو سيادة في العالم العربي وتعرّش على ملكية البرامج، إذ يعرض على ملايين الشاشات ويستقطب آلاف آلاف المشاهدين من مختلف الفئات العمرية، لدرجة أن الناس يتابعونه يومياً على أكثر من محطة فضائية ويستمتعون بإعادته على مدار اليوم. فعندما يفتح الباب، تفتح معه خبايا الحارة وأسرار رجالها، ونسائها، وبيوتها، كما تفتح معه محاور فكرية متعددة.
لكن يا ترى ما الذي يمغنط في هذا الإنتاج؟ ولماذا أصبحنا متأثرين رغم مئات الأعمال الدرامية السابقة والحالية؟ هل يرى الرجل صوره لوالده وجده في شخصيات المسلسل التي تتصف بالسلطة، عندما يكون الآمر الناهي؟ وهل الحارة نموذج اجتماعي للمجتمع البطريركي؟ وهل تدفع المرأة حريتها ثمناً للتعبير عن رأيها حتى لو كان مخالفاً لرأي زوجها؟ وهل من سر وراء تجاهل السلطة لمشاكل الناس وتغذية أفكارهم بالمماطلة لجعلها أرضية خصبة للنزاعات لتمارس سياسة "فّرق تسد"؟ وأسئلة كثيرة تولد بعفوية واندفاعية مذهلة.
أيقف المسلسل عند محطة زمنية، أم انه يقف عند زماننا ومكاننا؟ وما سر اهتمام عرب الـ48 بهذا الإنتاج بشكل خاص؟؟
أترانا نبحث عما يشدنا إلى ثقافة بلاد الشام التي مزقتها سياسة العولمة وحاولت اتفاقيات القرن العشرين أن تفصل الكيانات السياسية؟ في حين أن مصطلح أن "الشام" تطلق على مدينة في سوريا تقع في شمال الدولة، بينما مصطلح "بلاد الشام" كان يطلق على المنطقة الممتدة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط وتمتد شرقا إلى نهر الفرات وتمتد شمالا من بلاد الروم (تركيا) حاليًا إلى حدود مصر وجزيرة العرب جنوبا. ثم أصبحت تشتمل على سورية ولبنان وفلسطين والأردن وأجزاء من تركيا، حيث كانت بلاد الشام تاريخيا كيانًا جغرافيًا وسياسياً واحدًا ، فالتقسيمات السياسية كانت دومًا ترتكز على اعتبار هذه المنطقة كتلة واحدة لا يمكن الفصل بينها ، غير أن الاحتلال البريطاني- الفرنسي واتفاقية "سايكس بيكو" أدت إلى تقسيم بلاد الشام إلى دول صغيرة ، تمهيدًا لمنح اليهود وطنًا في فلسطين. والسؤال الذي يطرح، هل آل هذا الانفصال إلى انفصال ثقافي وحضاري، إذا كان نعم فواجب الدراما إعادة التواصل الحضاري أو حتى لم شمله.
عشرات القصص التي تحاك يومياً وتنسج موازاةً للقصص الدرامية المترجمة في مقاطع تصويرية في هذا الإنتاج. وهذا التواصل الانفعالي احياناً يدفع المشاهد ليكون مشاهداً فعالاً مع استحضار لحواسه الخمس، حتى يخّيل للمشاهد العربي أن موجود في الحارة، وفي بيوت الحارة ومقهى الحارة وبين رجال الحارة وربما أكثر من ذلك، فلم أتفاجئ من البعض عندما ثارت حفيظتهم واستفزوا وأرادوا أن يقفزوا الى قلب الشاشة ليغيروا سير الأحداث وفقاً لأهوائهم وتعاطفهم.
"باب الحارة"، ما من شك أن هذا العمل يعكس الحياة الواقعية بطابع سوري ويركز على القيم والمبادئ التي ربما هي آخذة بالاندثار لذلك يحاول المشاهدون أن يستشفوا القيم الأصيلة والاحترام الذي كان يظلل العائلة العربية، ولقد نجحت الدراما السورية في الآونة الأخيرة أن تؤسس مدرسة (حركة فكرية) فنية بغض النظر عن الطرح الدرامي رغم الإمكانات الشحيحة لكنها تفوقت على المسلسلات الأخرى لأنها عرفت من "أين تؤكل الكتف" في حبكة درامية من أقوى ما يكون الأمر الذي دغدغ المتلقي (المشاهد) بعمق. وما هي القيم أو المبادئ التي يبحث عنها المشاهد العربي، بغض النظر إذا كان الطابع المميز سورياً أم لا، بل ربما أن ملامح الثقافة السورية بلباسها ولهجتها وأصالتها تضيف تمّيزاً وقرباً. فالرجال ينتشون من الرجولة التي تستوطن أجسادهم وأفكارهم وسلطتهم. والنساء يستمتعن بنسج المكائد وإتباع صوت موسيقى الغيرة والانتقام.
وإذا دققنا النظر أكثر، فان هذا الإنتاج يسلّط الضوء على العلاقات الإنسانية بدقة، فيهتم بجذب الناظرين من خلال الوقوف على المسائل الأكثر حساسية في مجتمعنا، كالزواج والطلاق والعلاقات الزوجية والعائلية وكل هذا ضمن التربية و التهيئة الاجتماعية. ويركز أيضا على أهمية التواصل الاجتماعي في ظل حياة تفكك بها العقد الاجتماعي.بالإضافة لذلك، الصراع بين الخير والشر بارز الملامح، وهو موجود منذ الأزل بين بني البشر على اختلاف أماكنهم وثقافتهم وحضارتهم وهويتهم وجنسياتهم فالرابط الوحيد بينهم أنهم بشر. وهذا ما تمثل في روائع الأدب العالمي، في قضية الأخذ بالثار والانتقام كرائعة شكسبير "هاملت" ، أهي قضية يحسم بها البشر أم أنها تترك للقدرة الإلهية؟ وهذا حقاً ما تجسد في الحبكة الدرامية الرائعة التي تنقل عيون المشاهد تارةً مؤّيد وتارةً مّفند فضلا عن الإبداع التصويري الفني الذي يلامس أحاسيسنا ومشاعرنا فمرةً نحن نضحك ومرات كثيرة نحن نبكي ونتأثر وهذا من أروع ما أنتجته أيادي الكاتب والمخرج والقائمين على العمل معاً.
بتصوري أن كل شيء يدور في المسلسل ما هو إلا انعكاسات رمزية لها أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية تحلق في فضاء الفكر العربي، فالباب رمز بحد ذاته، انه باب فكري يفتح أمام الإنسان العربي بقوة لكن ليس بقوة العنف أو الإرهاب بل برجاحة العقل والصبر، وكذلك الحارة برمزيتها التي تحتمي ببابها الكبير ذو السلطة حيث ترفرف أجنحة الطمأنينة.
ربما حمّلنا المسلسل أكثر مما يحتمل، لكن ما تجدر إشارته، أن البشرية إذا أرادت أن تكشف أسرارها، فإنها تخلق عبقرياً يتكلم بصوتها...
ويبقى السؤال قائماً ما هو السر الذي يختفي وراء باب الحارة؟